تركيبة طبية فريدة
خلال القرنين الأخيرين اللذين بدأ الناس فيهما بتنفس الهواء المضغوط، جمع الباحثون سجلا حافلا عن الكيفية التي يستجيب بها جسم الإنسان للضغوط التي لم يهيأ لها، وغالبا ما تم ذلك نتيجة لإصابات مؤسفة تعرض لها عدد من هؤلاء الأشخاص. وقد أدت عمليات الغوص إلى الحصول على مجموعة ثمينة وفريدة من المعلومات الطبية تتراوح بين القدرة المخدرة للنتروجين المضغوط وبين سمّية الأكسجين المضغوط مرورا بالآثار الناجمة عن ضياع الحرارة والأعراض الغريبة التي يسببها الضغط في الجملة العصبية المركزية.
لقد عرف منذ عام 1877 السبب الكامن وراء "داء الغواص" (كما يسميه البعض) وهو وجود الفقاعات الغازية في الدم أو الأنسجة، وبدأت منذ ذلك الوقت دراسته بشكل مكثف. وقد كان الفسيولوجي الفرنسي (برت) أول من عزا هذا الداء إلى الفقاعات الغازية، وأثبت أن هذه الفقاعات مؤلفة من النتروجين، أما الأكسجين فلا يسبب وجوده مشكلة أثناء تخفيف الضغط بسبب استقلابه من قبل خلايا الأنسجة.
وكان من أسباب ظهور هذا الداء اختراع المضخة الهوائية وما تلاه من اختراع القيسون caisson عام 1841، وهو غرفة مكيفة الضغط تستعمل تقليديا أثناء بناء الأنفاق أو وضع أساسات الجسور تحت الأنهار. ويدخل العمال إلى القيسون عبر الإغلاق الهوائي airlock ويبدؤون العمل في جو من الهواء المضغوط الذي يمنع تدفق المياه. وعندما يخف الضغط المرتفع ويعود إلى مستوى الضغط الجوي العادي يشكو كثير من العمال من الآلام المفصلية، وقد يشكون أحيانا من أعراض أكثر خطورة مثل التنمل numbness والشلل وفقد التحكم في البول أو البراز، والموت في بعض الأحيان.
مخطط توضيحي للقيسون Caisson |
عرف داء الغواص بين عامة الناس آنذاك باسم الحنيات bends، وقد أطلق عليه هذا الاسم عام 1870 أثناء بناء جسر سانت لويس. فقد كان العمال المصابون بهذا المرض يمشون أحيانا مع بعض الانحناء في قامتهم. وقد اشتغل نحو 600 عامل داخل القيسونات في سانت لويس، ومن هؤلاء أصيب 119 بالشكل العصبي من داء الغواص وهو أكثر الأشكال خطورة، كما مات 14 عاملا.
وكان من بين هؤلاء المصابين طبيب العمال الدكتور (جامنيت) الذي شكا بعد خروجه من القيسون في إحدى الأمسيات من دوام (دوخة) وأصبح عاجزا عن الكلام وشعر بألم في الأطراف وشلل في ساقيه وإحدى ذراعيه. وقد تراجعت هذه الأعراض بعد أسبوع اكتفى الطبيب خلاله برفع الساقين وشرب الروم rum وهو مشروب كحولي. ومن المدهش أن كثيرا من الحالات الوخيمة من داء الغواص كانت تشفى بشكل تلقائي، إلا أن بعضا منها لم تكن لتتراجع تاركة المصاب معتلا طيلة حياته. وإلى جانب هذه الحالات الخطرة كان هناك عدد أكبر من الحالات الأقل أعراضا والتي عادة ما تتظاهر بآلام مفصلية.
كذلك وقع عدد من الإصابات بهذا الداء في جسر بروكلين الذي بني في الوقت نفسه لبناء جسر سانت لويس. فقد مات من العمال عشرون شخصا وأصيب عدد أكبر باضطرابات عصبية مستديمة، ومن بينهم (روبلينغ) كبير المهندسين الذي أصبح مشلولا وكان عليه أن يتابع الإشراف على بناء الجسر وهو مقعد في السرير.
إن أسس المعالجة الحديثة لداء الغواص تم وضعها في القرن التاسع عشر عندما لوحظ أن أعراض الداء كثيرا ما تتحسن عندما يدخل المصابون إلى القيسون من جديد، وينجم ذلك عن تناقص حجم الفقاعات الغازية. وفي الوقت نفسه بين برت أن استنشاق الأكسجين الصرف يساعد على تخفيف علامات هذا المرض عند الحيوانات. وفي الواقع تتضمن المعالجة حاليا إعادة الانضغاط العالي ومن ثم تخفيفه ببطء مع الاستمرار في استنشاق الأكسجين أثناء ذلك. وعلى الرغم من أن إعادة الانضغاط بعد عدة ساعات أو أيام من بدء الأعراض قد تؤدي إلى تحسن الوضع، فإن النتائج الحسنة أكثر حدوثا عندما تبدأ بسرعة إعادة الانضغاط.
مَنْ هم المعرّضون للخطر؟
ازداد عدد الفئات التي يتعرض أفرادها للإصابة بداء الغواص (داء انخفاض الضغط) والتي تضم حاليا الغواصين والعاملين في القيسونات والطيارين الذين يتعرضون لانخفاض الضغط عندما يطيرون على ارتفاعات عالية، ورواد الفضاء الذين يرتدون بذلات فضائية منخفضة الضغط قبل خروجهم من المركبة الفضائية. وتدل السجلات الصحية في الولايات المتحدة على وقوع نحو 900 حالة من هذا الداء كل عام بين هواة الغوص. وعلى الرغم من أن نسبة وقوع داء الغواص في الولايات المتحدة غير معروفة، فإن بعضهم يعتقد بوقوع حادثة واحدة لكل 5000 - 000 10 غطسة بين الغواصين الهواة. أما بالنسبة للغواصين المحترفين الذين يتعرضون لضغوط أعلى وتستمر لفترات أطول فيقدر أن معدل الوقوع يبلغ حادثة واحدة لكل 500-1000 غطسة.
ولعل من أكثر الأمور إقلاقا في هذه الحوادث هو أن معظمها لا يمكن أن يعزى إلى تهور الغواصين. ولكي يتجنب الغواصون الإصابة بهذا المرض يلجؤون إلى استعمال حواسيب مضادة للماء أو جداول خاصة تنبئهم بالعمق الذي يستطيعون الهبوط إليه وبالمدة التي يستطيعون قضاءها في هذا العمق من دون أن يتعرضوا للخطر. وقد تم وضع هذه الجداول في مطلع القرن العشرين استنادا إلى أعمال الفسيولوجي البريطاني (هالدين) وقد أدى استعمال جداول هالدين وخليفاتها إلى نقص حاد في معدل وقوعات الداء وفي عدد الحالات الوخيمة منه. ومع ذلك فإن نصف حالات هذا الداء يصيب الغواصين الذين يدعون بأنهم التزموا أثناء عملية الغوص بالحدود التي بينتها الجداول المشار إليها (أو تلك التي بينتها خوارزمية الكمبيوتر computer algorithm والتي تعتمد كلها على حسابات رياضية متماثلة).
لقد كان التقدم في الكشف عن أسرار داء الغواص بطيئا، ويعود ذلك إلى أن هذا الداء هو في الواقع مجموعة من الأمراض المترابطة بعض الشيء. ويشير المصطلح «داء الغواص» إلى انخفاض مفاجئ وشديد في الضغط المحيط وإلى الصمة embolus الغازية الشريانية وهو مايعرف الان بداء انخفاض الضغط.
تحدث الصمة الغازية الشريانية عندما تمنع المجاري التنفسية المسدودة الهواء المتمدد في الرئتين من الخروج منهما. ويحصل ذلك نمطيا عندما يحبس الغواص المبتدئ أو المذعور تنفسه أثناء صعوده بسرعة من الأعماق، فيتناقص الضغط المحيط بجسم الغواص في هذه الحالة وعندئذ يتمدد الهواء الموجود في الرئتين لدرجة يستطيع معها تمزيق الرئة والتسرب إلى مجرى الدم. وقد تنجم هذه المتلازمة أيضا عن انسداد بعض القصبات الهوائية بسبب الإصابة بالربو أو بالخمج التنفسي respiratory infection. وتتبع الفقاعات الغازية في هذه الحالات الجريان الدموي الذي ينقلها إلى الدوران الشرياني وكثيرا ما تصل عن هذا الطريق إلى الدماغ. وتؤدي إعاقة الجريان الدموي إلى خلل في وظيفة النسيج الدماغي أو إلى موته فورا. وهذا هو التعليل الأكثر احتمالا لظهور الأعراض العصبية مثل فقد الوعي المفاجئ والاختلاجات والشلل الذي يصيب الشق الأيمن أو الأيسر من الجسم.
إلا أن المشاهدات (الملاحظات) السريرية توحي بأن الآليات المسببة لهذا الداء تتجاوز مجرد إعاقة الجريان الدموي. فعلى سبيل المثال، إن بعض المرضى يتحسنون عند إعادة تعريضهم للضغط المرتفع ثم تسوء حالتهم مرة أخرى من دون سبب واضح، وذلك بعد انقضاء فترة زمنية كافية لزوال الفقاعات. وقد بينت الدراسات التي أجراها الدكتور فورمان ومساعدوه على الحيوانات (في جامعة أدلايد بأستراليا) أن الصمة الغازية تؤدي إلى حدوث نقص بطيء وثابت في الجريان الدموي الدماغي يستمر حتى بعد زوال الفقاعات تماما من الأوعية. وهناك دلائل توحي بأن استمرار الحالة المرضية قد يكون ناجما عن الأذية التي أحدثتها الفقاعات في بطانة الأوعية (الغشاء المبطن للأوعية الدموية) وما يتلو ذلك من تجمع الكريات الدموية البيضاء التي يمكنها أن تعوق الجريان الدموي بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق إطلاق بعض الوسيطات الكيماوية chemical mediators.
أما داء الغواص (انخفاض الضغط) فهو ناجم عن تشكل الفقاعات الغازية ضمن الأنسجة، حيث تدخل الغازات الخاملة التي تسبب هذا المرض (وهي عادة النتروجين أو الهيليوم) إلى الجسم عن طريق الرئتين أثناء عملية الغوص وتذوب في الدم بسبب الضغط العالي السائد في أعماق المحيط. تحمل الدورة الدموية هذه الغازات الذائبة إلى الشعيرات (الأوعية الشعرية) ومنها تنتشر إلى الأنسجة. ويحدث هذا الانتشار ـ سواء كان إلى داخل الأنسجة في الأعماق، أو خارجها عند الصعود إلى السطح ـ حدوثا سريعا في النخاع (الحبل) الشوكي والدماغ بسبب تقارب الشعيرات بعضها من بعض في هذه الأنسجة وكون هذه الأعضاء جيدة التروية بالدم. وتدعى الأنسجة التي يكون فيها تبادل الغازات الخاملة خاضعا بالدرجة الأولى لسيطرة الجريان الدموي بـ «الأنسجة السريعة». واستنادا إلى هذا المعيار تعد المفاصل من الأنسجة «البطيئة» فهي أقل إرواء من الدماغ، لذلك كان امتصاص الغاز وطرحه منها أقل سرعة. أما تبادل الغازات الخاملة في العضلات الهيكلية skeletal فهو مختلف بعض الشيء. يكون الجريان الدموي بطيئا في عضلات الغواص البارد الجسم خلال فترات الراحة، إلا أن الجريان الدموي فيها قد يتضاعف عشر مرات عند الغواص الدافئ الجسم أثناء فترات التمرين.
تحت الضغط
بانتظار الجزء الثاني
ردحذف