بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/12/25

فيسيولوجيا داء انخفاض الضغط (داء الغواص) - الجزء الثاني -


التخلص من النتروجين
عندما يصعد الغواص إلى سطح الماء، تكون أنسجته محتوية على كمية مهمة من النتروجين. وفي نهاية الأمر تتخلص الأنسجة من هذا الغاز الذي التقطته أثناء الغوص، بواسطة الدم الذي ينقله إلى الرئتين حيث يطرح إلى الخارج مع هواء الزفير. وعندما يتجاوز ضغط الغازات المنحلة في الأنسجة الضغط المحيط بالغواص يقال إن الأنسجة فوق مشبعة supersaturated بالغاز. ويمكن أن تتشكل الفقاعات في هذه الحالة تماما كما يحصل عندما تفتح زجاجة محتوية على شراب مشبع بثنائي أكسيد الكربون. وفي الواقع، شاهد الباحثون باستعمال تقنيات الأمواج فوق الصوتية (السونار) فقاعات الغاز في مجرى الدم لدى الغواصين والطيارين الذين تعرضوا لانخفاض مفاجئ في الضغط يعادل 0.3 من الضغط الجوي.
ومن المفارقات أن الفقاعات لا تتشكل على ما يبدو ضمن الدم نفسه. فقد أظهرت التجارب التي أجراها لأول مرة (إيراسموس) جد العالم (داروين)، أن الدم المحصور في أوعيته الطبيعية ـ أي الأوعية الدموية ـ والمعزول عن الدورة الدموية (الدوران) لا يشكل فقاعات حتى لو انحسر عنه الضغط الشديد. وقد تأكد بعض العلماء من صحة هذه التجربة في مختبراتهم، إذ إنهم لم يتمكنوا من مشاهدة هذه الفقاعات في دم وريد معزول بعد انحسار الضغط عنه والذي بلغ 122 ضغطا جويا. ويبدو أن تشكل الفقاعات يحتاج إلى شيء آخر إضافة إلى فرط الإشباع بالغاز.


ومن ناحية أخرى بينت الدراسات التي أجريت باستعمال الأشعة السينية وجود جيوب من الغاز في مفاصل الأطراف وفي العمود الفقري وما حوله حتى ولو لم يكن هناك تخفيف للضغط. وتتشكل هذه الفقاعات نتيجة الالتصاقات اللزجة بين سطوح الأنسجة المتحركة. وأحد الأمثلة على ذلك هو «الفرقعة» التي تسمع في المفاصل وتنجم عن تشكل الفقاعات وزوالها. ومن المحتمل أن الغاز المتخلف عن هذه الجيوب يلعب دور النوى التي تنشأ عنها الفقاعات التي تسبب داء الغواص. وتتوضع هذه النوى خارج الجملة الوعائية (الأوعية الدموية) لكنها قد تتسع فتمزق الشعيرات الصغيرة مما يؤدي إلى مرور الفقاعات إلى مجرى الدم. ويمكن رؤية حادثة مشابهة في كأس من مشروب غازي حيث تميل الفقاعات للانطلاق من الشقوق الممتلئة بالغازات الواقعة على جوانبه.
تنشأ الأعراض المختلفة لداء الغواص عن توضع الفقاعات في أماكن متعددة من الجسم داخل الأوعية وخارجها. وينجم ألم الأطراف مثلا على الأرجح، من ضغط الفقاعات على النهايات العصبية ومن تمطيطها الأنسجة المحيطة بالمفاصل. أما التنمل والشلل فسببهما توضع الفقاعات في النخاع (الحبل) الشوكي مما يؤدي إلى تخريب الخلايا العصبية وتعطيل ترويتها. وينجم السعال وضيق النفس عن وجود عدد كبير من الفقاعات الغازية في أوردة الرئتين وضغطها على الشعيرات الرئوية.
إلى جانب هذه التأثيرات المباشرة للفقاعات، يبدو حاليا أن لها تأثيرات ثانوية أيضا. فالفقاعات الغازية بصفتها أجساما غريبة تقوم بتفعيل نظام التخثر مما يزيد من انسداد مجرى الدم. كما أن الدلائل التي قدمها (وورد) (من جامعة تورنتو) تشير إلى أن المتممة complement تلعب دورا مهما في هذا الموضوع. والمتممة هي مجموعة من المركبات الموجودة في الدم تساعد الجسم على الوقاية من الأخماج.

اختصار الطريق إلى الشرايين
على الرغم من تداخل الفقاعات في كل أشكال داء الغواص فإن وجودها بحد ذاته لا يعني حصول الاضطراب. وفي الواقع لقد استعمل الكثير من الباحثين، مثل الدكتور (دنفورد) (من مركز فرجينيا ميسون الطبي في سياتل)، أجهزة الأمواج فوق الصوتية لفحص الغواصين الهواة مباشرة بعد قيامهم بجولات تحت الماء. وتبين أن وجود الفقاعات الغازية أمر شائع جدا في الجملة الوريدية والبطين الأيمن للقلب والشريان الرئوي عند هؤلاء الأشخاص. ويبدو أن هذه الفقاعات الوريدية عديمة الأذى وأنها تصفى في شبكة الشعيرات الرئوية ومن ثم تطرح مع هواء الزفير.
إلا أنه عند وجود كمية كبيرة من هذه الفقاعات تتجاوز قدرة الشعيرات الرئوية على التصفية فإن جزءا منها يمر إلى الجملة الشريانية. كما أن بعض الآفات القلبية تسمح للفقاعات بالمرور مباشرة من القسم الأيمن للقلب إلى قسمه الأيسر متجاوزة المرور في الدورة الدموية الرئوية وهذا ما يؤدي إلى النتيجة نفسها. ويمكن للفقاعات التي تدخل الجملة الشريانية بهذه الطريقة أن تصل إلى الدماغ وتعطل القدرة الإبصارية أو النطق أو التفكير أو الوعي. 
إن أكثر الآفات القلبية التي تؤدي إلى هذه النتيجة هي الثقبة البيضوية المفتوحة patent foramen ovale وهي فتحة صغيرة بين الأذينين atria الأيمن والأيسر للقلب تشاهد عند 10-20% من عامة الناس. ويمكن كشف الثقبة البيضوية المفتوحة باستعمال تقنية خاصة تدعى تخطيط صدى القلب بالتباين الغازي bubble contrast echocardiography حيث تشاهد الفقاعات وهي تمر من الأذين الأيمن إلى الأذين الأيسر. وهناك حالة أخرى نادرة تدعى الفتحة بين الأذينين يمكن أن يكون لها التأثير نفسه.

في القلب يكون الدم الوريدي (الأزرق) مفصولا عن الدم الشرياني (الأحمر) الذي يضخ إلى الأنسجة، وينجم عن ذلك أن جميع الفقاعات الغازية تقريبا تتوقف في الشعريات الرئوية. ومع ذلك، يحمل نحو 10% من الأشخاص فتحة صغيرة تدعى الثقبة البيضوية المفتوحة تصل بين الأذينين  الأيمن والأيسر. وتسمح هذه الثقبة للفقاعات بالعبور إلى الجملة الشريانية مما يؤدي إلى حدوث أذيات في الدماغ وفي غيره من الأعضاء.


وقد بدأ الباحثون عام 1986 بالبحث عن الثقبة البيضوية المفتوحة عند جميع المرضى الذين يدخلون إلى المستشفى للمعالجة من مرض انخفاض الضغط. فإذا صحت هذه الفرضية بأن هذه الآفة القلبية تزيد من خطر الإصابة بمرض انخفاض الضغط، وجب أن تكون أكثر انتشارا بين الغواصين الذين أصيبوا بهذا الداء. وفي الواقع بينت الدراسات إمكان وجود الثقبة البيضوية المفتوحة عند نحو 50% من الغواصين الذين أصيبوا بالشكل العصبي الخطر من داء الغواص. ويدل ذلك على أن الأشخاص المصابين بهذه الآفة القلبية معرضون أكثر من غيرهم بخمس مرات للإصابة بالأعراض الخطرة الناجمة عن الانخفاض المفاجئ والشديد في الضغط المحيط بهم. وعلى الرغم من أن هذه العلاقة الإحصائية لا تشكل برهانا قاطعا فإنها شجعت الباحثون على متابعة الدراسة لهذه الآلية.

نحو غوص أكثر أمانا
إن التقليل من خطر حدوث الفقاعات في الجملة الوريدية (الأوردة) يبدو وكأنه فكرة جيدة لأن عددا أقل منها سيتمكن عندئذ من الوصول إلى الجملة الشريانية (الشرايين) عن طريق الرئتين أو عن طريق الثقبة البيضوية المفتوحة. وقد يكون الصعود البطيء إلى سطح الماء أو الصعود المتدرج مفيدا لتحقيق هذه الغاية. وقد أظهرت التجارب المجراة على الحيوانات تناقص عدد الفقاعات عندما يتم الصعود إلى السطح بمعدل 9 أمتار/30 قدم في الدقيقة مقارنة بعددها عندما يصعد بمعدل 18 مترا/60 قدم في الدقيقة وهو المعدل الذي يتلقنه الغواصون عادة.
وفي الواقع قد يكون من الصعب على الغواص ولا سيما إذا كان قليل الخبرة، أن يصعد إلى السطح بهذه السرعة البطيئة. والطريقة الأخرى للحصول على النتيجة نفسها هي التوقف لعدة دقائق أثناء الصعود على عمق 5-6 أمتار/15 قدم وهو ما يدعى (توقف الأمان) أو وقفة السلامة (أي التوقف الذي يتم بعد غطسة قصيرة المدة لا تتطلب توقفات إلزامية لتخفيف الضغط بحسب الجداول المعلن عنها). وفي التسعينيات، بينت الدكتورة (يوغوجيوني) ـ وكانت تعمل في شبكة إنذار الغواصين ـ أن توقف أمان مدته ثلاث دقائق على عمق ستة أمتار ما يعادل 15 قدم ينقص الفقاعات الوريدية بنسبة خمسين بالمئة. إضافة لذلك فإن الصعود البطيء وتوقفات الأمان قد تتيح للأنسجة العصبية سريعة التبادل، كالدماغ والنخاع الشوكي، الوقت الكافي للتخلص من الغازات الخاملة الزائدة وبذلك تقلل من درجة فرط الإشباع ومن إمكان تشكل الفقاعات.
وهناك طريقة أخرى للتقليل من ضغط النتروجين المنحل الذي يحرض تشكل الفقاعات، وهي استنشاق الأكسجين العالي التركيز. فعندما يكون ضغط النتروجين في الأنسجة أعلى من ضغطه في الدم فإن الغاز ينتشر إلى الدم ومنه ينتقل إلى الرئتين حيث يتم طرحه. وكلما زاد الفارق في الضغط زادت سرعة التخلص من الغاز. ويساعد استنشاق الأكسجين الصرف على زيادة هذا الفارق في الضغط. كما يفيد الأكسجين أيضا حتى بعد تشكل الفقاعات لأن التخلص منها يعتمد على الفارق بين ضغط النتروجين في الفقاعات وضغطه في الأنسجة المحيطة بها.
عرفت تأثيرات الأكسجين هذه منذ قرن تقريبا، وأدت إلى استعماله بطرق مختلفة في عمليات الغوص سواء كان ذلك في الماء أو خارجه. وتتم معظم عمليات غوص الهواة باستعمال الهواء المضغوط، إلا أن بعض التقنيات المتقدمة أو المتخصصة تتطلب استنشاق مزيج من الغازات غير الهواء  العادي الذي يحوي نسبة 21 بالمئة من الأكسجين. مثال ذلك الغواصون الذين يقومون بتوقفات إلزامية لتخفيف الضغط فإنهم يستنشقون أحيانا الأكسجين الصرف كما أن الغواصين العلميين والمحترفين وقسما متزايدا من الغواصين الهواة يستعملون الهواء المخصب بالأكسجين وهو ما يطلق عليه نايتروكس Nitrox وهو مزيج يحوي 32 أو 36% من الأكسجين. إن ارتفاع تركيز الأكسجين في هذا المزيج يمكن الغواص من البقاء في عمق معين مدة أطول بعض الشيء من دون أن يحتاج إلى التخفيف المرحلي للضغط، أو أنه يسمح له باتباع خطة الغوص نفسها وينقص من خطر تعرضه للإصابة بداء الغواص. إلا أن هناك حدا للعمق الذي يجوز للغواص الوصول إليه عندما يستعمل هذا المزيج من الغازات، ذلك أن الأكسجين الموجود في هذا المزيج قد يحدث آثارا سامة إذا تجاوز ضغطه في المزيج 1.4- 1.6 ضغط جوي. ففي حالة استعمال المزيج الذي يحوي 32% من الأكسجين مثلا لا يجوز أن يتجاوز العمق الذي يصل إليه الغواص 37 مترا. وفي أشد أشكاله فإن التسمم بالأكسجين oxygentoxicosis يتجلى باختلاجات معممة  generalized convulsions مما قد يؤدي إلى الغرق.

إعداد جداول أكثر أمانا
كيف يمكن الربط بين المعلومات عن فسيولوجيا داء الغواص وبين إعداد جداول لتخفيف الضغط المحيط أو خوارزميات حاسوبية تكون أكثر فاعلية وأمانا؟. إن إدخال الآراء الخاصة بالآليات الفسيولوجية في نماذج رياضياتية يمكن أن يؤدي إلى تقليل أخطار الإصابة بالمرض أثناء التجول في أعماق الماء. وتقوم هذه النماذج الرياضياتية بتقدير ضغط الغازات الخاملة في أنماط مختلفة من الأنسجة المروية بسرعات متباينة. ويفترض أن الفقاعات تتشكل عندما تصبح الأنسجة فائقة الإشباع ويحصل ذلك عادة عندما يصل الإشباع إلى الضعف. وقد كان العالم (هالدين) أول من اخترع هذا النمط من النماذج قبل قرن من الزمن تقريبا.

وعلى مر السنين تم تحسين هذه (الطريقة) الأساسية مرات متعددة ، و بقيت لفترة غير مرضية تماما. لكن التطورات الحديثة قد حسنت النموذج. ومع ذلك فإن التقدم الأكثر أهمية كان في انتشار الفكرة القائلة بأن الإصابة بداء الغواص احتمال قائم أكثر من كونه حدا فاصلا بين الأمان والخطر.
وقد أطلق هذه الفكرة في أواسط الثمانينات كل من الدكتور ( ويذربي) و(هومر) من بحرية الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تستند إلى نماذج تقوم بتقدير احتمال حدوث داء الغواص عند كل غطسة. إلا أن تحقيق ذلك بشكل جيد يتطلب قاعدة واسعة من المعلومات المفصلة عن مئات الغطسات التي أدت إلى حدوث داء الغواص وعن آلاف الغطسات التي لم تؤد إلى ذلك. لكن الحصول على مثل هذه المعلومات أمر صعب ومكلف للغاية. ومن حسن الحظ أن الكمبيوتر الذي يحمله كثير من الغواصين حاليا قد يساعد في الحصول على هذه المعلومات. ذلك أن هذه الكمبيوترات تقيس بدقة وتسجل العمق الذي يصل إليه الغواص وتحسب باستمرار التبدلات التي تطرأ على نتروجين الأنسجة وتنقل هذه المعلومات إلى الكمبيوترات الموجودة على سطح الماء.

تعود أهمية النهج الاحتمالي إلى كونه مقاربة أكثر واقعية لمفهوم الأمان. فالغوص كما هي الحال في قيادة السيارات أو التزلج على الجليد، له مخاطره التي يمكن تخفيفها ولكن لا يمكن إلغاؤها كلية. وهكذا يمكن اعتبار عمليات الغوص التي يقدم الغواص على القيام بها ـ وهو مدرك لمخاطر الإصابة بداء الغواص التي قد يتعرض لها ـ عمليات آمنة. لذلك تعتبر رياضة الغوص رياضة آمنة إذا ما اتبع الغواص الجداول الزمنية المحددة أو كمبيوتر الغوص الخاص به و غاص في حدود تدريبه.



المصادر:
مجلة العلوم
موسوعة الغوص
موقع ويكيبيديا




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق