بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/12/20

فيسيولوجيا داء انخفاض الضغط (داء الغواص) - الجزء الأول -

تركيبة طبية فريدة
خلال القرنين الأخيرين اللذين بدأ الناس فيهما بتنفس الهواء المضغوط، جمع الباحثون سجلا حافلا عن الكيفية التي يستجيب بها جسم الإنسان للضغوط التي لم يهيأ لها، وغالبا ما تم ذلك نتيجة لإصابات مؤسفة تعرض لها عدد من هؤلاء الأشخاص. وقد أدت عمليات الغوص إلى الحصول على مجموعة ثمينة وفريدة من المعلومات الطبية تتراوح بين القدرة المخدرة للنتروجين المضغوط وبين سمّية الأكسجين المضغوط مرورا بالآثار الناجمة عن ضياع الحرارة والأعراض الغريبة التي يسببها الضغط في الجملة العصبية المركزية.

لقد عرف منذ عام 1877 السبب الكامن وراء "داء الغواص" (كما يسميه البعض) وهو وجود الفقاعات الغازية في الدم أو الأنسجة، وبدأت منذ ذلك الوقت دراسته بشكل مكثف. وقد كان الفسيولوجي الفرنسي (برت) أول من عزا هذا الداء إلى الفقاعات الغازية، وأثبت أن هذه الفقاعات مؤلفة من النتروجين، أما الأكسجين فلا يسبب وجوده مشكلة أثناء تخفيف الضغط بسبب استقلابه من قبل خلايا الأنسجة.


وكان من أسباب ظهور هذا الداء اختراع المضخة الهوائية وما تلاه من اختراع القيسون caisson عام 1841، وهو غرفة مكيفة الضغط تستعمل تقليديا أثناء بناء الأنفاق أو وضع أساسات الجسور تحت الأنهار. ويدخل العمال إلى القيسون عبر الإغلاق الهوائي airlock ويبدؤون العمل في جو من الهواء المضغوط الذي يمنع تدفق المياه. وعندما يخف الضغط المرتفع ويعود إلى مستوى الضغط الجوي العادي يشكو كثير من العمال من الآلام المفصلية، وقد يشكون أحيانا من أعراض أكثر خطورة مثل التنمل numbness والشلل وفقد التحكم في البول أو البراز، والموت في بعض الأحيان.


مخطط توضيحي للقيسون Caisson


عرف داء الغواص بين عامة الناس آنذاك باسم الحنيات bends، وقد أطلق عليه هذا الاسم عام 1870 أثناء بناء جسر سانت لويس. فقد كان العمال المصابون بهذا المرض يمشون أحيانا مع بعض الانحناء في قامتهم. وقد اشتغل نحو 600 عامل داخل القيسونات في سانت لويس، ومن هؤلاء أصيب 119 بالشكل العصبي من داء الغواص وهو أكثر الأشكال خطورة، كما مات 14 عاملا.

وكان من بين هؤلاء المصابين طبيب العمال الدكتور (جامنيت) الذي شكا بعد خروجه من القيسون في إحدى الأمسيات من دوام (دوخة) وأصبح عاجزا عن الكلام وشعر بألم في الأطراف وشلل في ساقيه وإحدى ذراعيه. وقد تراجعت هذه الأعراض بعد أسبوع اكتفى الطبيب خلاله برفع الساقين وشرب الروم rum وهو مشروب كحولي. ومن المدهش أن كثيرا من الحالات الوخيمة من داء الغواص كانت تشفى بشكل تلقائي، إلا أن بعضا منها لم تكن لتتراجع تاركة المصاب معتلا طيلة حياته. وإلى جانب هذه الحالات الخطرة كان هناك عدد أكبر من الحالات الأقل أعراضا والتي عادة ما تتظاهر بآلام مفصلية.

كذلك وقع عدد من الإصابات بهذا الداء في جسر بروكلين الذي بني في الوقت نفسه لبناء جسر سانت لويس. فقد مات من العمال عشرون شخصا وأصيب عدد أكبر باضطرابات عصبية مستديمة، ومن بينهم (روبلينغ) كبير المهندسين الذي أصبح مشلولا وكان عليه أن يتابع الإشراف على  بناء الجسر وهو مقعد في السرير.

إن أسس المعالجة الحديثة لداء الغواص تم وضعها في القرن التاسع عشر عندما لوحظ أن أعراض الداء كثيرا ما تتحسن عندما يدخل المصابون إلى القيسون من جديد، وينجم ذلك عن تناقص حجم الفقاعات الغازية. وفي الوقت نفسه بين برت أن استنشاق الأكسجين الصرف يساعد على تخفيف علامات هذا المرض عند الحيوانات. وفي الواقع تتضمن المعالجة حاليا إعادة الانضغاط العالي ومن ثم تخفيفه ببطء مع الاستمرار في استنشاق الأكسجين أثناء ذلك. وعلى الرغم من أن إعادة الانضغاط بعد عدة ساعات أو أيام من بدء الأعراض قد تؤدي إلى تحسن الوضع، فإن النتائج الحسنة أكثر حدوثا عندما تبدأ بسرعة إعادة الانضغاط.

مَنْ هم المعرّضون للخطر؟
ازداد عدد الفئات التي يتعرض أفرادها للإصابة بداء الغواص (داء انخفاض الضغط) والتي تضم حاليا الغواصين والعاملين في القيسونات والطيارين الذين يتعرضون لانخفاض الضغط عندما يطيرون على ارتفاعات عالية، ورواد الفضاء الذين يرتدون بذلات فضائية منخفضة الضغط قبل خروجهم من المركبة الفضائية. وتدل السجلات الصحية في الولايات المتحدة على وقوع نحو 900 حالة من هذا الداء كل عام بين هواة الغوص. وعلى الرغم من أن نسبة وقوع داء الغواص في الولايات المتحدة غير معروفة، فإن بعضهم يعتقد بوقوع حادثة واحدة لكل 5000 - 000 10 غطسة بين الغواصين الهواة. أما بالنسبة للغواصين المحترفين الذين يتعرضون لضغوط أعلى وتستمر لفترات أطول فيقدر أن معدل الوقوع يبلغ حادثة واحدة لكل 500-1000 غطسة.


ولعل من أكثر الأمور إقلاقا في هذه الحوادث هو أن معظمها لا يمكن أن يعزى إلى تهور الغواصين. ولكي يتجنب الغواصون الإصابة بهذا المرض يلجؤون إلى استعمال حواسيب مضادة للماء أو جداول خاصة تنبئهم بالعمق الذي يستطيعون الهبوط إليه وبالمدة التي يستطيعون قضاءها في هذا العمق من دون أن يتعرضوا للخطر. وقد تم وضع هذه الجداول في مطلع القرن العشرين استنادا إلى أعمال الفسيولوجي البريطاني (هالدين) وقد أدى استعمال جداول هالدين وخليفاتها إلى نقص حاد في معدل وقوعات الداء وفي عدد الحالات الوخيمة منه. ومع ذلك فإن نصف حالات هذا الداء يصيب الغواصين الذين يدعون بأنهم التزموا أثناء عملية الغوص بالحدود التي بينتها الجداول المشار إليها (أو تلك التي بينتها خوارزمية الكمبيوتر computer algorithm والتي تعتمد كلها على حسابات رياضية متماثلة).

لقد كان التقدم في الكشف عن أسرار داء الغواص بطيئا، ويعود ذلك إلى أن هذا الداء هو في الواقع مجموعة من الأمراض المترابطة بعض الشيء. ويشير المصطلح «داء الغواص» إلى انخفاض مفاجئ وشديد في الضغط المحيط وإلى الصمة embolus الغازية الشريانية وهو مايعرف الان بداء انخفاض الضغط.

تحدث الصمة الغازية الشريانية عندما تمنع المجاري التنفسية المسدودة الهواء المتمدد في الرئتين من الخروج منهما. ويحصل ذلك نمطيا عندما يحبس الغواص المبتدئ أو المذعور تنفسه أثناء صعوده بسرعة من الأعماق، فيتناقص الضغط المحيط بجسم الغواص في هذه الحالة وعندئذ يتمدد الهواء الموجود في الرئتين لدرجة يستطيع معها تمزيق الرئة والتسرب إلى مجرى الدم. وقد تنجم هذه المتلازمة أيضا عن انسداد بعض القصبات الهوائية بسبب الإصابة بالربو أو بالخمج التنفسي respiratory infection. وتتبع الفقاعات الغازية في هذه الحالات الجريان الدموي الذي ينقلها إلى الدوران الشرياني وكثيرا ما تصل عن هذا الطريق إلى الدماغ. وتؤدي إعاقة الجريان الدموي إلى خلل في وظيفة النسيج الدماغي أو إلى موته فورا. وهذا هو التعليل الأكثر احتمالا لظهور الأعراض العصبية مثل فقد الوعي المفاجئ والاختلاجات والشلل الذي يصيب الشق الأيمن أو الأيسر من الجسم.

إلا أن المشاهدات (الملاحظات) السريرية توحي بأن الآليات المسببة لهذا الداء تتجاوز مجرد إعاقة الجريان الدموي. فعلى سبيل المثال، إن بعض المرضى يتحسنون عند إعادة تعريضهم للضغط المرتفع ثم تسوء حالتهم مرة أخرى من دون سبب واضح، وذلك بعد انقضاء فترة زمنية كافية لزوال الفقاعات. وقد بينت الدراسات التي أجراها الدكتور فورمان ومساعدوه على الحيوانات (في جامعة أدلايد بأستراليا) أن الصمة الغازية تؤدي إلى حدوث نقص بطيء وثابت في الجريان الدموي الدماغي يستمر حتى بعد زوال الفقاعات تماما من الأوعية. وهناك دلائل توحي بأن استمرار الحالة المرضية قد يكون ناجما عن الأذية التي أحدثتها الفقاعات في بطانة الأوعية (الغشاء المبطن للأوعية الدموية) وما يتلو ذلك من تجمع الكريات الدموية البيضاء التي يمكنها أن تعوق الجريان الدموي بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق إطلاق بعض الوسيطات الكيماوية chemical mediators.

أما داء الغواص (انخفاض الضغط) فهو ناجم عن تشكل الفقاعات الغازية ضمن الأنسجة، حيث تدخل الغازات الخاملة التي تسبب هذا المرض (وهي عادة النتروجين أو الهيليوم) إلى الجسم عن طريق الرئتين أثناء عملية الغوص وتذوب في الدم بسبب الضغط  العالي السائد في أعماق المحيط. تحمل الدورة الدموية هذه الغازات الذائبة إلى الشعيرات (الأوعية الشعرية) ومنها تنتشر إلى الأنسجة. ويحدث هذا الانتشار ـ سواء كان إلى داخل الأنسجة في الأعماق، أو خارجها عند الصعود إلى السطح ـ حدوثا سريعا في النخاع (الحبل) الشوكي والدماغ بسبب تقارب الشعيرات بعضها من بعض في هذه الأنسجة وكون هذه الأعضاء جيدة التروية بالدم. وتدعى الأنسجة التي يكون فيها تبادل الغازات الخاملة خاضعا بالدرجة الأولى لسيطرة الجريان الدموي بـ «الأنسجة السريعة». واستنادا إلى هذا المعيار تعد المفاصل من  الأنسجة «البطيئة» فهي أقل إرواء من الدماغ، لذلك كان امتصاص الغاز وطرحه منها أقل سرعة. أما تبادل الغازات الخاملة في العضلات الهيكلية skeletal فهو مختلف بعض الشيء. يكون الجريان الدموي بطيئا في عضلات الغواص البارد الجسم خلال فترات الراحة، إلا أن الجريان الدموي فيها قد يتضاعف عشر مرات عند الغواص الدافئ الجسم أثناء فترات التمرين.

تحت الضغط
إن تطور تقنيات استعمال الهواء المضغوط دفع الناس إلى الغوص لأعماق تزيد على أربعين مترا (130 قدم)، وقد أدى ذلك إلى اكتشاف التأثيرات الخطرة إلى حد ما لتنفس النتروجين المضغوط بشدة ألا وهي: التخدر narcosis وقد أطلق على هذه الحالة الاسم الشاعري «نشوة الأعماق» والتي كثيرا ما تشبه بالانسمام الكحوليalcohol intoxication.
وقد بدأت بحرية الولايات المتحدة منذ أواخر الثلاثينات استبدال الهيليوم بالنتروجين في الخلائط (المزيجات) التنفسية المستعملة في الغوص العميق، لأن قدرته المخدرة تقل كثيرا عن قدرة النتروجين. وقد كان نجاح هذه الطريقة كبيرا حتى ظن لبعض الوقت أنه لن تكون هناك بعد الآن عوائق أمام الغوص العميق. إلا أنه في عام 1960 اكتشف (بينت) عقبة جديدة تظهر على عمق 150 مترا. وقد دعا هذه الحالة بالمتلازمة العصبية للضغط العالي (HPNS).
تصيب أعراض وعلامات هذه الحالة الغريبة الغواصين المعرضين للضغط في الأعماق، وهي تعاكس من بعض النواحي أعراض وعلامات التخدر بالنتروجين. تتميز هذه المتلازمة بالدوام (الدوخة) والقيء والرجفان والتعب والوسن والرمع العضلي myoclonicjerking والمغص المعدي وضعف الأداء العقلي واضطراب النوم المترافق مع الكوابيس والأحلام الواضحة، وتبدلات في فاعلية الدماغ الكهربائية مثل زيادة الموجات البطيئة والنوم السطحيmicrosleep وفيه يبقى الغواص واعيا مادام انتباهه مشدودا. وكلما زاد الغوص عمقا وزادت سرعة التعرض للضغط ازدادت الأعراض بشدة.
أجرى (بينت) في أواخر الستينات تجارب حول تأثير الغازات الخاملة على أغشية الخلايا مما أوحى له بأسباب هذه المتلازمة وطرق معالجتها. تبدي الغازات الخاملة فسيولوجيا كالنتروجين والأرغون تأثيرا مخدرا عندما تكون عالية الضغط، أما آلية ذلك فهي تماثل آلية تأثير المبنجات anesthetics العامة نفسها. تمدد المبنجات غشاء الخلايا العصبية، ويعتقد (بينت) أن الآليات نفسها تشكل أساس المتلازمة العصبية للضغط العالي. وتوحي التجارب التي أجريت بعد ذلك أن الغازات المخدرة تخفض التوتر السطحي للأغشية الدهنية، في حين تؤدي الغازات غير المخدرة كالهيليوم والنيون إلى زيادة التوتر السطحي لهذه الأغشية، مما يعني أن هذه الغازات تقبض الأغشية.
استنادا إلى ذلك، افترض أن إضافة 5-10 بالمئة من النتروجين إلى مزيج الهيليوم والأكسجين تعطي خليطا لا يؤثر في التوتر السطحي للغشاء الخلوي ولا يؤدي بالتالي إلى ظهور أعراض التخدير ولا المتلازمة العصبية للضغط العالي.
وفي أوائل السبعينات استخدم (بينت) هذا الخليط لأول مرة في المركز الطبي لجامعة "ديوك". وفي الواقع لقد حسن هذا الخليط الجديد الذي يدعى تري ميكس Trimix، الرجفان وغيره من أعراض المتلازمة العصبية للضغط العالي. وفي عام 1981 أجريت تجارب في جامعة "ديوك" باستخدام غرف حديثة عالية الضغط عُرِّض الغواصون أثناءها لضغوط تعادل تلك التي يتعرضون لها على عمق 460 مترا وحتى 686 مترا تحت سطح الماء، وتبين أن الضغوط العالية مازالت تسبب بعض أعراض المتلازمة العصبية للضغط العالي. كما ظهرت مشكلة أخرى وهي الكثافة الزائدة للخليط الغازي في هذه الضغوط العالية مما يجعله عسير التنفس.
وقد بدأ الباحثون في شركة كومكس للغوص، بتجربة خليط جديد استبدل فيه الهيدروجين بالنيتروجين الذي تعادل كثافته نصف كثافة الهيليوم وله خواص مخدرة ضعيفة. ولدى إجراء تجارب الغوص العميق الذي يتجاوز فيها ضغط الهدروجين 25 ضغطا جويا، تعرض الغواصون أحيانا لعارضات (نوبات) موهنة كأعراض الذهان (النفاس) أو الشعور بأنهم خارج الجسم. وفي عام 1989 استخدم بنجاح خليط يحوي 1% من الأكسجين مع كميات متساوية من الهدروجين والهيليوم في الغوص لمسافة 500 متر في عمق المحيط مع جولات على عمق 520 مترا و 534 مترا. وفي عام 1993 استخدم الخليط ذاته في الغوص التجريبي (داخل غرفة عالية الضغط) لعمق 701 متر وهو الرقم القياسي العالمي.


سُجل الرقم القياسي في الغوص عام 1981م، عندما عرض الغواصون لضغط يعادل 686 مترا.



وقد احتاج الغوص إلى هذه الأعماق إلى سبعة أيام من الضغط وأكثر من ثلاثين يوما لتخفيف الضغط. وكما هي الحال عند رواد الفضاء، فقد الغواصون وزنهم وقدرة أجهزتهم القلبية الوعائية على التكيف. وعلى الرغم من التكاليف الباهظة لهذه التجارب فإنها تزيد من فهمنا لجسم الإنسان عندما تتوسع بيئته لتشمل الفضاء الخارجي وأعماق المحيطات.


... يتبع

هناك تعليق واحد: